هموم ليست شخصية تماماً - عريب الرنتاوي

 

تردد اسم قريتَيْ عارورة وقراوة بني زيد في بيتنا كثيراً، والمؤكد أنني سمعت بهما طفلاً، أكثر مما سمعت ببيت لحم والبيرة وعكا وغيرها من المدن والحواضر الفلسطينية...والسبب في ذلك، أن الوالد -رحمه الله- أقام في تلك القرى قبل "النكبة"، وأنشأ فيها الكتاتيب (مدارس تلك الحقبة) واحتفظ بصداقات موصولة مع أبنائها ووجهائها الذين بقينا على اتصال وتواصل معهم، نتبادل الزيارات ونتقصى الأخبار العائلية والاجتماعية، إلى أن قطعت "الهزيمة" حبال الوصل والتواصل.

قبل بضعة أسابيع، حدثني الصديق نمر العاروري، وهو مهندس فلسطيني مقيم في ألمانيا، والواضح من اسمه، أنه من أبناء عارورة، عن مخطوطة أعدها عن "سيرة القرية"، ولقد دُهش عندما عرف أنني ابن الاستاذ (الشيخ في رواية أخرى) محمد رجا، ابن قرية "رنتية" الساحلية، الذي قضى سنوات في قريته وجوارها، نجح خلالها بتعليم جيل كامل من أبناء المنطقة، حين كان التعليم، عملة نادرة.

والحقيقة، أنني طالما تساءلت عن السبب الذي دفع والدي لترك قريته الساحلية، التي لا تفصلها سوى كيلومترات قليلة عن المقهى الأثير على قلبه شاباً: "العجمي" في يافا، الذي ظل يذكره طوال حياته، ولطالما أخطاْ في لفظ اسم "مقهى السنترال" في وسط البلد، عندما كنت أسأله عن وجهته أيام الجمع، فيجيب إلى "العجمي" بدلاً عن "السنترال"....وكان الوالد -يرحمه الله- يجيب دائماً، بأن الوطن بمفاهيم مجاهدي تلك الحقبة، لم يكن سوى المكان الذي يمكنك فيه أن تقاوم على نحو أفضل، قطعان المهاجرين والمستوطنين المدعمين بسلطات انتدابية استعمارية...لم يكن هذا الجواب يعني لي شيئاً في تلك الأزمنة، إلى أن أخذت دلالاته بالاتضاح والتبلور مع مرور الزمن وتقدمنا في الوعي والسن.

كنت التقيت في صغري وكبري، عددا من الرجال والنساء في قرى فلسطينية أخرى عاش فيها الوالد وعلّم وناضل، كنت أدهش كيف كانت الرياضة والتدريب وحمل العصي عوضاَ عن البنادق، واحدة من المنهاج المقررة في "مدارس تلك الأزمان"...أدركت لاحقاً أن "الشيخ رجا" -رحمه الله- كان يقوم في حلّه وترحاله، بمهمة أخرى، إلى جانب التدريس والتعليم، إنها التعليم والتدريب على مقاومة الانتداب وقطعان المستوطنين.

لفت الصديق العاروري انتباهي في كراسته، أن الوالد، بالتعاون مع وجهاء القرية (عارورة) والقرى المجاورة لها، قد أنشأوا فريق "كشافة" في ثلاثينيات القرن الفائت...تساءلت: هل كان الوعي "الكشفي" منتشراً في تلك الأزمنة، في تلك القرى الجبلية؟...هل هي كشافة فعلاً أم "أنوية" وحدات فدائية كان يجري إعدادها تحت ستار من التمويه الكشفي، بانتظار اللحظة المناسبة، لحظة الحقيقة والاستحقاق.

ومما زاد معرفتي ببعض صفحات تلك الحقبة، التساؤل الذي طرحه الصديق العاروري عن السبب الذي دفع بأبناء تلك القرى الجبلية الوعرة، للقتال والجهاد في قرية "رنتية" وجوارها على السهل الساحلي...لقد أوضح التساؤل المذكور، طبيعة المهمة التي كان يقوم بها الوالد الراحل في تلك المنطقة...مهمة "تجنيد" و"تدريب" و"تنظيم" شباب فلسطيني في خلايا مقاومة، تتحرك في طول البلاد وعرضها... لقد كان وجوده يرحمه الله في عارورة، وهو ابن رنتية، القناة التي مرّ بها مجاهدو تلك المنطقة، لقتال الانتداب والمستوطنين في العديد من المواقع والمواجهات التي خاضها شعب فلسطين دفاعاً عن حقه في وطنه.

لقد استطاع العاروي وهو يوثق سيرة قريته، أن يتدارك بعض ما يمكن تداركه مما تختزنه عقول وصدور جيل النكبة من الفلسطينيين، وهو جيل يكاد يغادر هذه الدنيا، من دون أن يبادر أحد إلى كتابة "التاريخ الشفهي" للقضية الفلسطينية ولكفاح شعب فلسطين المجيد...

لقد سعدت بأن أحداً بادر لفعل ذلك، وإن بشكل جزئي ومحدود، وسعدت لأن والدي حظي ببعض الإنصاف (غير المباشر) حين أوتي على ذكره في سيرة تلك القرية البعيدة عن مسقط رأسه بحسابات تلك الزمن...وأحسب أن ألوفاً من رجال فلسطين ونسائها، قضوا من دون أن ينصفهم أحد، ولم يتركوا لنا أثراً من سيرهم النضالية المجيدة، فهل تشكل محاولة العاروري، مناسبة لتدارك التقصير قبل فوات الأوان...أدعو لذلك، وأدعو إليه بشدة، وادعو إليه الجميع، وليس المؤرخين وخبراء "التاريخ الشفهي" فحسب، فالأفضل أن نحصل على "منتوج" متواضع من الناحية العلمية والمنهجية، من أن نفقد بعد بضع سنوات لا اكثر، الفرصة لإنتاج عمل أكاديمي ضخم وشامل.

 

عريب الرنتاوي-الدستور الأردنية-13-2-2012

 

 

 

 

 

 

 

Dies ist eine mit page4 erstellte kostenlose Webseite. Gestalte deine Eigene auf www.page4.com